الخميس، 22 ديسمبر 2016

كيف ظهر التطرف في الجزائر

بقلم سعيد جاب الخير:
عرفت الحركة الوطنية الجزائرية تيارا دينيا إصلاحيا سلفيا، تأسس في ثلاثينيات القرن العشرين تحت اسم "جمعية العلماء المسلمين" وكان أقرب في محتواه إلى مدرسة "الإخوان المسلمين" المصرية. هذا التيار هو الأب الشرعي لجميع حركات الإسلام السياسي المتطرفة التي ظهرت في جزائر ما بعد الاستقلال.
فما هي الدوافع الموضوعية لهذا التطرف الديني؟
من الأمور الجديرة بالملاحظة، أن الدولة الوطنية المستقلة لم تحسم خياراتها في ما يتعلق بمشروع المجتمع الذي ينبغي انتهاجه، وبدل الحسم باتجاه التحديث الكامل الذي لا يقبل المساومة، كما فعلت تونس، اختارت الجزائر آنذاك نهج الحداثة المنقوصة أو التلفيق بين التحديث والخطاب الديني الإصلاحي. من هنا تم تسليم وزارات التعليم والشؤون الدينية والإعلام والثقافة، إلى شخصيات تنتمي فكريا إلى التيار الديني الإصلاحي، حتى وإن انتمت سياسيا إلى حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الوحيد والحاكم آنذاك.
هذا التحالف الضمني بين الدولة الوطنية ورموز المدرسة الإصلاحية، نتج عنه توجيه ديني للمدرسة، حيث غُيبت الرموز الثقافية الوطنية الجزائرية عن البرامج التعليمية، وأشهرها الأمير عبد القادر (1808- 1883) قائد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة. كما غُيبت رموز التاريخ الجزائري القديم، الأمر الذي شكل كبتا لقطاعات واسعة من الشباب الذين انتفضوا ضد اغتيال الهوية الوطنية في أحداث الربيع الأمازيغي الشهيرة عام 1980.
مطلع الثمانينيات شهد أيضا فتح المجال واسعا لنشاط حركات الإسلام السياسي لتوظيفها كمخلب قط في الحرب ضد اليسار الذي كان ما يزال مسيطرا على بعض دواليب السلطة، وخاصة في ما كان يسمى آنذاك بـ"المنظمات الجماهيرية" الخاصة بالشباب والعمال والفلاحين، إضافة إلى صعود نجم "ملتقيات الفكر الإسلامي" السنوية التي كانت ترعاها الدولة، والتي تحولت من مجال مفتوح على ثقافات العالم والقراءات المتنوعة للدين والحضارة، إلى مجال خصب للدعوة إلى الخطاب الديني المتطرف، حيث لاحظنا الحضور الكثيف للرموز السلفية في غياب الرموز الفكرية المنفتحة التي غُيبت عن هذا الحدث.
بالتوازي مع الملتقيات الدينية، انطلقت معارض الكتاب التي أغرقت السوق بالكتاب الديني المستورد من المشرق والمُدعم من طرف الدولة بنسبة 90 في المئة، في ظل غياب كامل لثقافة القراءة النقدية وسط جمهور شبابي في أغلبه، متعطش للكتب الدينية بسبب موجة ما سمي آنذاك بـ"الصحوة الإسلامية" ذات الخطاب المُغرق في الماضوية.
من جانب آخر، نجد أن استقدام بعض رموز الإسلام السياسي الشهيرة من المشرق إلى الجزائر، وتسليمهم مقاليد التعليم الديني العالي في جامعة الأمير عبد القادر على سبيل المثال، بالإضافة إلى النشاط الكثيف للحركات الأصولية المحلية، كل ذلك نتج عنه إقصاء النخبة الجزائرية التنويرية (من أمثال محمد أركون ومولود معمري والطاهر جاووت) عن الحقل الثقافي، لتعويضهم برموز الإسلام السياسي المشرقية الذين أصبحوا يمثلون القدوة والمثل الأعلى للشباب، في حين أصبح التكفير العلني للرموز الثقافية الوطنية، أمرا عاديا لا يكاد يعترض عليه أحد. ومن الأمور الموحية في هذا المجال، ما حدث للدكتور محمد أركون (المتخصص في الدراسات الإسلامية) في ملتقى الفكر الإسلامي وهو يلقي محاضرته، حيث حرض أحد شيوخ الأزهر على طرده من القاعة متهما إياه بالكفر والإلحاد، وهكذا كان.
إن تكريس سياسة الحزب الواحد على المستوى الرسمي، وغياب أي مجال للحوار الفكري والسياسي داخل المجموعة الوطنية، والكبت النفسي والاجتماعي الذي كانت تعانيه شرائح واسعة من الشباب، والناتج عن التناقض بين الغريزة الطبيعية من جهة، وبين الممنوعات والطابوهات الدينية من جهة أخرى، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلد سنة 1986، والتي فاقمت الأمور المتأزمة أصلا بسبب تصاعد مؤشرات التهميش والفقر والبطالة. كل ذلك، جعل الساحة الجزائرية تتحول إلى أرضية خصبة للتجنيد والتجييش داخل حركات الإسلام السياسي المتطرفة.
وجاءت أحداث أكتوبر 1988 لتُنتج جزائر تعددية وصحافة حرة، وعشرات الأحزاب السياسية، كان أقواها حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" الديني المعارض والمتطرف. ولن نستغرب بعد هذا التحليل، كيف تمكن هذا الحزب من تجنيد أكثر من ستة ملايين جزائري في صفوفه، ليُدخل البلد في صراع داخلي دموي عنيف دام أكثر من 10 سنوات، صراعٌ ما تزال مضاعفاته مستمرة حتى اليوم، تماما كما هي مستمرة أغلب الدوافع نحو التطرف.
عن الكاتب: سعيد جاب الخير، إعلامي جزائري وباحث في التصوف. كتب منذ 1989 في عدد من الصحف الجزائرية. عمل محررا في صحيفة "الخليج" الإماراتية. عمل للإذاعة الجزائرية حيث قدم ثمانية برامج ثقافية. باحث في الحركات الإسلامية والتصوف وله عدة مقالات وأبحاث منشورة كما شارك في العديد من الملتقيات الوطنية والدولية. صدر له كتاب (التصوف والإبداع) عن دار المحروسة، القاهرة 2007، وأبحاث في التصوف والطرق الصوفية، الزوايا والمرجعية الدينية في الجزائر، عن دار فيروز، الجزائر 2014. مؤسس ملتقى الأنوار للفكر الحر، سنة 2014.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق